جواب:
ذكرنا في الحلقة السابقة ما يدل علي تحقق ولادة المولي(أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)وبملاحظة ذلك لا يـبقي مجال للتشكيك في ذلك. لكن قضية التشكيك في موضوع الإمام الحجة(عج)لا تقف عند الحد الذي ذكرناه في ما تقدم،بل تـتعدي إلي عرض أمور أخري. إذ يوجد من ينكر هذا الأمر أيضاً،لكن بدوافع أخري،غير مسألة الولادة،فينطلق من دوافع أخري. وهذه الدوافع وإن كانت بعيدة عن المنهج الإسلامي القويم القائم علي العقل والمنطق،والفطرة والإستناد إلي الغيب،إلا أنه ينبغي لنا ملاحظتها،حذراً من تشويشها علي أذهان بعض المؤمنين. الإيمان بالغيب: يعتبر الإيمان بالغيب جزءاً من عقيدة المسلم،إذ تكررت الدعوة إلي ذلك في القرآن والسنة المباركة،قال تعالي:- (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدي للمتقين الذين يؤمنون بالغيب)[1]. وقد تضمنت السنة مئات الروايات المؤكدة علي الإيمان بالغيب والتصديق بما يخبر به الأنبياء والرسل،ولهذا لا تصح عقيدة الإنسان المسلم بإنكاره،سواء تعقله وأدرك أسراره وتفصيلاته أم لم يستطع إلي ذلك سبيلاً،كما في الإيمان بالملائكة وبعذاب القبر،وسؤال الملكين في القبر،وغير ذلك من المغيـبات التي ذكرها القرآن الكريم،أو أخبر عنها النبي الأكرم محمد(ص)،ونقلها إلينا الثقات العدول. هذا ومن جملة القضايا الغيـبية،بل أهمها قضية الإمام المهدي(عج)الذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً. هذا وقد وجد بعض المثيرين للشبه،حول قضية الإمام الحجة المنتظر(عج)بعدما ضعفوا عن مواجهة الأدلة النقلية المتظافرة المثبتة لشخص الإمام الحجة،بشخصه الشريف،وأنه ابن الإمام العسكري(ع)فأثاروا بعض الشبه في المقام،وأهم تلك الشبهة مسألة صغر سن المولي،وطول عمره،والفائدة من الغيـبة بالنسبة له،ومسألة استفادة الأمة المسلمة من امام غائب. هذا وسنحاول أن نجيب علي هذه الأمور بمقدار ما يؤدي الغرض إن شاء الله ويزيل الشبهة ويدحضها. صغر سن الإمام: قد يطرح تساؤل في البين مفاده:كيف يكون الإمام إماماً،وهو في سن الخامسة من عمره؟… ويجاب عن هذا السؤال:إن من الأمور المسلمة أن الإمام العسكري(ع)لم يعقب إلا الإمام الحجة ابن الحسن العسكري،ومقتضي أن الإمام من ولده(ع)يستلزم أن يكون الإمام هو الإمام الحجة. أما كيف يتصور كونه إماماً وهو في هذا السن الصغير،فنقول: إن هذا يشير إلي ظاهرة الإمامة المبكرة،وهي ظاهرة ليست بالجديدة في تاريخ الأمة الإسلامية،حيث سبقه إليها عدد من آبائه الطاهرين،فالإمام الجواد(ع)تولي الإمامة وهو في الثامنة من عمره،وتولي الإمام الهادي(ع)الإمامة وهو في التاسعة من عمره،وكان الإمام العسكري إماماً للأمة وهو في الثانية والعشرين من عمره،نعم الملاحظ أن الإمامة المبكرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي،والإمام الجواد. ثم إن تسمية لإمامة المبكرة بالظاهرة لكونها بالنسبة إلي عدد من آباء الإمام المهدي(ع)تشكل مدلولاً حسياً عملياً عاشه المسلمون،ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشكل وآخر،ولا يمكن أن يطالب بإثبات ظاهرة من الظواهر هي أوضح وأقوي من تجربة أمة،وتوضيح ذلك ضمن النقاط التالية: الأولي:ليست إمامة أهل البيت(ع)من الأمور التي تنـتقل بالواراثة من الأب إلي الأبن،كما في مراكز السلطان والنفوذ،بحيث يدعمها النظام الحاكم،وإنما هي تكتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي والإقناع الفكري لتلك القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام وقيادته علي أسس فكرية وروحية. الثانية:لقد بنيت القواعد الشعبية منذ صدر الإسلام،وازدهرت واتسعت علي عهد الإمامين الصادقين(ع)وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان،في داخل هذه القواعد تشكل تياراً فكرياً واسعاً في العالم الإسلامي يضم مئات من الفقهاء والمتكلمين والمفسرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية. الثالثة:لقد كان لهذه المدرسة وما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي شروط شديدة تؤمن بها وتـتقيد بموجبها في تعيـين الإمام والتعرف علي كفاءته للإمامة،وذلك لإيمانها أن الإمام لا يكون إماماً إلا إذا كان معصوماً وكان أعلم علماء عصره. الرابعة:لقد كانت هذه المدرسة وقواعدها الشعبية تقدم التضحيات في سبيل الصمود علي عقيدتها في الإمامة،وقد كانت السلطة الحاكمة وباستمرار تقريـباً تقوم بحملات تصفية وتعذيب للقواعد الشعبية،ذلك لأنها كانت تنظر إلي أنها تشكل خطاً عدائياً لها،ولو من الناحية الفكرية علي الأقل. وما نود الوصول إليه هنا هو أن الإعتقاد بإمامة أهل البيت(ع)كان يكلفهم غالياً،ولم يكن من الإغراءات التي يرغبها المعتقد بذلك إلا ما يحس به،أو يفترضه من التقرب إلي الله تعالي والزلفي عنده. الخامسة:إن الأئمة الذين دانت هذه القواعد الشعبية لهم بالإمامة،لم يكونوا معزولين عنها،ولا قابعين في بروج عاجية عالية شأن السلاطين الحاكمة مع شعوبهم،فلم يكونوا محتجبين عنهم إلا بمقدار ما يحجبهم السلطان بسجن أو نفي،أو ما تقتضيه الضرورة. السادسة:إن السلطة المعاصرة للأئمة(ع)كانت تنظر إليهم وإلي زعامتهم الروحية بوصفها مصدر خطر كبير علي كيانها ومقدراتها،فكانت تبذل كل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة،وتحملت في سبيل الوصول إلي هذه الغاية الكثير من السلبيات،وظهرت بمظاهر القسوة والطغيان. وقد كانت حملات المطاردة والإعتقال للأئمة وأتباعهم مستمرة،بالرغم مما كان يخلفه ذلك من اشمئزاز في نفوس المسلمين،وخصوصاً الموالين لأهل البيت(ع). هذا وبضم هذه النقاط الست مع بعضها نخرج بالنـتيجة التالية: إن ظاهرة الإمامة المبكرة كانت ظاهرة واقعية ولم تكن وهماً من الأوهام،لأن الإمام الذي يبرز علي المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحياً وفكرياً للمسلمين،ويدين له بالولاء والإمامة كل ذلك التيار الواسع لابد أن يكون في أعلي الدرجات والمراتب من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمكن من الفقه والتفسير والعقائد،لأنه لو لم يكن كذلك لما أمكن أن تقتنع قواعده الشعبية بإمامته،لما عرفت من أن الإمام كان في موقع يتيح له اللقاء بالناس،فتسلط الأضواء علي حياتهم وموازين شخصيتهم،فهل يعقل أن يدعي صبي الإمامة وينصب نفسه علماً للإسلام وهو علي مرأي ومسمع من جماهير قواعده الشعبية،فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلك الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تكلف نفسها اكتشاف حاله،وبدون أن تهزها ظاهرة هذه الإمامة المبكرة لإستطلاع حقيقة الموقف وتقيـيم هذا الصبي الإمام. ثم علي فرض التسليم والقبول بأن الناس لم يـبادروا إلي استكشاف حقيقة هذا المدعي-وإن كانت الشواهد الخارجية الكثيرة تثبت خلاف ذلك-فهل يمكن أن تمر المسألة أياماً وشهوراً،بل أعواماً دون أن تـتكشف الحقيقة علي الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟… وهل من المعقول أن يكون صبياً في فكره وعلمه حقاً،ثم لا يـبدو ذلك من خلال هذا التفاعل الطويل في أفعاله وتصرفاته؟… ومع التنـزل وافتراض أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت،لم يتح لها أن تكتشف واقع الأمر،فلماذا سكتت السلطة القائمة،ولم تعمل علي كشف الحقيقة،خصوصاً وأن ذلك كان سيصب في صالحها؟… وما كان أيسر علي السلطة القائمة لو كان الصبي صبياً في فكره وثقافته كما هو المعهود في الصبيان؟وما كان أنجحه من أسلوب أن تقدم الصبي إلي شيعته وغيرهم علي حقيقته،وتبرهن علي عدم كفائته للإمامة والزعامة الروحية والفكرية،فإذا كانت هناك صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة شخص في الأربعين من عمره،فلا صعوبة في الإقناع بعدم كفاءة صبي اعتيادي مهما كان ذكياً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإمامية. ومن الواضح أن هذا سيكون أسهل وأيسر للسلطة من الطرق والأساليب القمعية والمجازفة التي أتبعتها في ذلك الوقت. فالإنصاف أن سكوت السلطة والخلافة المعاصرة عن الإستفادة من هذه المسألة،دليل واضح علي كونها قد أدركت أن الإمامة المبكرة ظاهرة حقيقة وليست شيئاً مصطنعاً. بل لقد حاولت السلطة أن تلعب بهذه الورقة حينما عمدت إلي تعريض مدعي الإمامة للإختبار،لكن تلك المحاولات لم تنجح،حيث يحدثنا التاريخ عن فشلها،بينما لا نجده يخبرنا عن مورد واحد تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبكرة،أو واجه فيه الصبي إحراجاً يفوق قدرته،أو يزعزع ثقة الناس فيه. وهذا هو معني ما قلناه من أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت(ع)،وليست مجرد افتراض. ثم إن هذه الظاهرة لها جذورها وحالاتها المماثلة في السنن السابقة،فهذا القرآن يتحدث عن نبي الله يحيي فيقول:- (يا يحيي خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً)[2] ومتي ثبت أن الإمامة المبكرة ظاهرة واقعية وموجودة فعلاً في حياة أهل البيت(ع)،لم يعد هناك اعتراض فيما يخص حياة الإمام المهدي(عج)وخلافته لأبيه وهو بعدُ صغير. طول العمر: ومما يثار عادة إذا ذكر الإمام الحجة(عج)قضية طول عمر المولي(أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)فيقال أنه إذا كان إنساناً حياً فكيف تأتي له هذا العمر الطويل منذ أكثر من أحد عشر قرناً،وكيف خرق القوانين الطبيعية التي تحتم عليه المرور بمرحلة الشيخوخة؟… وبعبارة ثانية:هل يمكن للإنسان أن يعيش هذه القرون المتطاولة؟… وقبل الإجابة علي هذا التساؤل،نشير إلي مقدمة تتضمن بيان معني الإمكان،حيث يمكن تصور ثلاثة أقسام له: الأول:ما يصطلح عليه بالإمكان العملي،ونعني به ما هو ممكن فعلاً وواقعاً،أي له تحقق ووجود ظاهر ومتعين. الثاني:ما يصطلح عليه بالإمكان العلمي،ويراد به ما هو غير ممتنع من الناحية العلمية الصرفة،بمعني أن العلم لا يمنع من تحققه ووقوعه ووجوده فعلاً. الثالث:ما يصطلح عليه بالإمكان المنطقي،ويراد به ما ليس مستحيلاً عقلاً،أي أن العقل لا يمنع من وقوعه وتحققه. الإمكان المنطقي: وبناءاً علي ما ذكرناه من الأقسام المتصورة للإمكان،يمكننا الإجابة علي التساؤول السابق،بعرض مسألة طول العمر عليها،مبتدئين بالثالث منها،فنقول: هل يمكن من الناحية المنطقية أن يعيش الإنسان مئات السنين،بمعني أن هذا ليس أمراً مستحيلاً من الناحية العقلية،أو لا؟… ونجيب:بالإيجاب،فليست قضية امتداد العمر فوق الحد الطبيعي أضعافاً مضاعفة من الأمور المستحيلة،كما هو واضح بأدني تأمل. نعم هو ليس مألوفاً ومشاهداً في الخارج بنحو من الكثرة،لكن هناك حالات نقلها أهل التواريخ وتناقلتها بعض النشرات العلمية،تجعل الإنسان لا يستغرب ولا ينكر ذلك. هذا وترتفع الغرابة متي رجعنا إلي القرآن الكريم،لنقرأ قوله تعالي وهو يتحدث عن نبي من أنبيائه،وهو نوح(ع):- (ولقد أرسلنا نوحاً إلي قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً)[3]. فبإخبار القرآن الكريم عن أن نوحاً قد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً،وهو غير عمره قبل النبوة،يقلل درجة الإستغراب،بل ربما ضعفت إلي درجة الزوال،لأن الإستغراب يـبقي ما لم يكن للشيء المتحدث عنه واقعية ووجود في الخارج،فمتي تحقق خارجاً فإن الإستغراب يزول. ويحدثنا القرآن مرة أخري لتحقق هذا الأمر بقصة نبي الله عيسي(ع)فإنه لم يمت وإنما رفعه الله إليه كما في قوله تعالي:- (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً،بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً)[4]. وقد وردت النصوص كما في صحيحي البخاري ومسلم،بأنه سينـزل إلي الأرض. وعليه فعندما تـتحدث النصوص الصحيحة،ويشهد الشهود،وتـتوالي الإعترافات بوجود الحجة بن الحسن المهدي(عج)من عترة الرسول الأكرم(ص)،الذي ولد سنة 255 من الهجرة النبوية،لن يـبقي للإستغراب والإنكار مجال،إلا ممن كان معانداً. هذا وقد جاء في تفسير الرازي:قال بعض الأطباء:العمر الإنساني لا يزيد علي مائة وعشرين سنة،والآية تدل علي خلاف قولهم،والعقل يوافقها،فإن البقاء علي التركيب الذي في الإنسان ممكن لذاته وإلا لما بقي،ودوام تأثير المؤثر فيه ممكن،لأن المؤثر فيه إن كان واجب الوجود فظاهر الدوام،وإن كان غيره فله مؤثر،وينـتهي إلي الواجب وهو دائم فتأثيره يجوز أن يكون دائماً،فإذن البقاء ممكن في ذاته،فإن لم يكن فلعارض،لكن العارض ممكن العدم،وإلا لما بقي هذا المقدار لوجوب وجود العارض المانع،فظهر أن كلامهم علي خلاف العقل والنقل[5]. وهذا البرهان الذي
|